السبت، 7 سبتمبر 2013

عرض حول كتابي: المسلمون في الغرب بين تناقضات الواقع وتحديات المستقبل

المسلمون في الغرب بين تناقضات الواقع وتحديات المستقبل 
عرض مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية

 يبدو التجاني بولعوالي مشغولاً في كتابه بأسئلة تطرح نفسها بقوة على مسلمي الغرب، خاصة أن هذه القضية قد دخلت حلبة الصراع الفكري والسياسي الدوليين، ولم تعد مجرد شأن محلي أو داخلي بين المهاجرين والدول التي قصدوها بحثاً عن ظروف أفضل للحياة. وبولعوالي، مغربي مهاجر إلى هولندا، متخصص في النقد الأدبي والدراسات الألسنية، وإلى جانب ذلك فقد تلقى دراسات دينية، ولديه اهتمام خاص بالقضية الأمازيغية. وهو ينطلق من تجربته الخاصة، ومن الحوار الممتد الذي تشهده هولندا بشأن المهاجرين المسلمين، ومن جدال وسجالات ونقاشات فكرية شارك فيها في أوساط الجالية الإسلامية، ليقدم في كتابه مجموعة من الأسئلة والأجوبة حول هذه القضية الخلافية.

يرى الكاتب أن ثمة إشكالات عميقة تعتري واقع المسلمين في الغرب، وأنه يتوخى إثارة بعض جوانبها، وإماطة اللثام عن المسكوت عنه من قضايا المسلمين بالمهجر، ليكشف عن الوجه الحقيقي للإسلام أمة وتاريخاً وحضارة، وهو وجه يخالف مطلقاً ماعليه حال أغلب المسلمين الآن، أو ما تظهره وسائل الإعلام المختلفة من رؤى وتحاليل وآراء تسيء إلى الإسلام والمسلمين. ويحدث ذلك نتيجة جهل بعض وسائل الإعلام الغربية بحقيقة الإسلام، أو تجاهله لتلك الحقيقة باعتبار أنه منخرط في صراع حضاري محموم مع هذا الوافد عليه، الذي راح يتغلغل في الحياة اليومية الغربية مزاحماً ببريق ثقافته المتميزة ثقافة الآخر، ومصادماً بقيمه الخاصة عادات وتقاليد الآخر.
والحالة التي يبدو عليها الإسلام في الغرب، كما يقول المؤلف، تقتضي التنقيب عن الأسباب الخفية والمعلنة التي تقف وراء ذلك. وهذا التنقيب يبدأ من نقد الذات الإسلامية والعربية التي لا تمثل نفسها خير تمثيل في الغرب، مما يصعد من النظرة المهينة والمحتقرة للمسلمين. وبعد هذا النقد يمكن التأسيس لحوار منفتح ومعقلن، بين مسلمي الغرب أنفسهم أولاً، ثم مع الآخر. وإذا لم نتمكن، حسب تعبير بولعوالي، من إقامة حوار صريح مع الذات والهوية، فإننا بالضرورة سوف نفشل في إقامته مع الآخر أياً كان. وآلية الحوار تمكننا، بشكل أو بآخر، من الكشف عن حقيقتنا الضائعة بين أنقاض الصراعات المتتالية التي ضيعت علينا فرص الدعوة العقلانية والممنهجة لإسلام معتدل ومتسامح. لقد أصبحنا بفعل هذه الصراعات أمام صورة لإسلام مهشم، لا يمثل من الإسلام الحقيقي الخالص إلا الطقوس والعبادات واللباس، أما ذلك الوجه الحضاري والعلمي والأخلاقي فلا نلمسه إلا عند أفراد منعزلين يحيون خارج أسوار المجتمع.
يصف المؤلف شعور أغلب المسلمين في الغرب بأنهم بين خيارين أحلاهما مر: الاندماج أو الإحجام، اي إن عليهم الاختيار بين الانفتاح المشروط بشروط الغرب أو الانغلاق؛ فإما ثقافة الغرب التي تضمن لهم العيش الكريم أو قيم الإسلام التي تضمن لهم سخط الغرب وعدم رضاه. وتكاد مثل هذه الرؤية ذات البعدين الأبيض والأسود تهيمن على بنية التفكير لدي المسلمين الموجودين في الغرب.
غير أن هناك فئة قليلة استطاعت أن تشكل رؤية ثالثة، تستوحي خطوط التماس الإيجابية التي تحجبها أحكام القيمة التي يكوِّنها كل طرف عن الآخر. ويمكن استناداً إلى تلك التماسات أو القواسم المشتركة التوصل إلى صياغة ثقافة مشتركة بين الطرفين؛ ثقافة مبنية على قيم إنسانية ينتفي فيها التعصب الديني أو الأيديولوجي، مسكونة بهموم الإنسان النفسية والاجتماعية والثقافية، وهي هموم تتخطى كل الحواجز الإثنية والعقائدية والأيديولوجية وغير ذلك. ولإرساء هذه الثقافة يمكن استيحاء كل ما تمت مراكمته من موروثات أخلاقية وحضارية، يستمدها المرء من الدين الذي يؤمن به، أو من المنظومة الاجتماعية والفكرية التي يندرج فيها.
ولا يخفي الكاتب انزعاجه البالغ من انتشار مظاهرالتحلل الأخلاقي في الغرب، وخاصة الشذوذ الجنسي والاغتصاب المنظم والاستغلال الجنسي للأطفال، ويشير إلى أن بعض المصادر تؤكد أن ثمة جمعيات لها صلة بالسلطة تشجع على نشر ظاهرة اللواط بين أطفال المسلمين وشبابهم، وتقف وراء إشاعة مثل هذه الظواهر الشاذة ترسانة من الأجهزة المختلفة التي تستخدم شتى الآليات، إعلامية كانت أم تربوية. ولكن الوجه الآخر للمعادلة، وهو ما يجعلها صعبة، أن هذه البلاد ذاتها هي التي عاملت المهاجر المسلم بالمعروف، وقبلته بين ظهرانيها معززاً مكرماً، في حين أنه مرفوض في وطنه، وغير مسموح له بالاستقرار في إحدى الدول العربية أو الإسلامية الغنية، فهي تفتح أبوابها للأوروبيين والأمريكيين وتغلقها أمامه.
إن السلوك المتردد للمسلم في الغرب، بين الإقبال على شتى جوانب الحضارة الغربية ذات الجانب المادي أو النفعي، والإحجام عن الحيثيات الأخلاقية والسلوكية السائدة في المنظومة الغربية، يدفع الغربي إلى اعتبار مثل هذا السلوك نفاقاً أو تناقضاً. لكن ما يراه الغرب ازدواجية أو تناقضاً ليس كذلك في حقيقته، إذ يعبر عن الرغبة في اكتساب نوع من المناعة ضد الجانب المرفوض من الحياة الغربية، لكن الغرب لم يتسن له بعد إدراك هذه الإشكالية التواصلية، التي قد تحدث نوعاً من القطيعة الثقافية والمعرفية بين الطرفين. لكن، إلى متى يظل المسلمون في الغرب متمسكين بحبل المناعة التي تتخذ كثيراً طابع الانزواء والتقوقع، فإذا أفرطوا فيها أصبحت تطرفاً وغلواً، وإذا فرطوا أصبحت انصهاراً وتحللاً؟ هذه هي الإشكالية التي يتعين مواجهتها.
يسرد التجاني بولعوالي في كتابه كثيراً من المواقف والتجارب الشخصية، ويستعين بها على تأكيد أفكاره. ويشير المؤلف إلى أن كتابه يركز على النموذج الهولندي، على اعتبار أنه يعيش في هولندا، لكنه يؤكد أن أفكار الكتاب وإشكالياته لا تتعلق بهولندا وحدها، بقدر ما تتخذ منها منطلقاً نحو الأصقاع الاوروبية الأخرى، أو نموذجاً مصغراً يمكن أن ينطبق بشكل ما على باقي النماذج الغربية الأخرى، خصوصاً أن ثمة قواسم مشتركة كثيرة من بينها تاريخ الهجرة وأسبابها، وجنس المهاجرين، واعتقاداتهم، والاصطدام الكائن بين هوية المهاجرين والثقافة الغربية، وإخفاق سياسة الاندماج، وتدهور الاوضاع الاقتصادية.
يحاول المؤلف تحديد "آليات وأساليب" تسهل تعايش المسلمين المهاجرين مع ثقافة البلد الذي يوجدون فيه، وتراعي نوعية العادات والتقاليد السائدة هناك. وأهم هذه الآليات تتمثل في تعلم لغة البلد الذي يستقرون فيه، حيث تسهل لهم أداء الواجبات المفروضة عليهم، واستيعاب قوانين الدولة. والواجبات لا ينبغي أن تُحتزل فيما يصدر عن المؤسسات الرسمية والحكومية، بقدر ما تتخطى ذلك إلى كل ما يربطهم من علاقات ومصالح بالآخرين، أفراداً كانوا أو مؤسسات، وبواسطتها أيضا يتيسر عليهم نيل حقوقهم.
إن غياب مثل هذه الإمكانية- امتلاك اللغة- جعل أعداداً من مهاجري الجيل الأول والثاني يتخبطون طوال أكثر من نصف قرن، في سوء التواصل أو انعدامه مع مكونات المجتمع الذي يستقرون فيه، فحُكم عليهم بالتقوقع والانعزال في تكتلات صغيرة ينظر إليها الغربيون بعين الريبة والتخوف.
وفي هذا النطاق يدعو الكاتب إلى إدراج آلية فقه الواقع، واعتماد فهم ديني لين بخصوص المسائل التي تعرقل تحقيق التعايش السلمي مع الآخر. وهذه مهمة علماء الأمة، فهم مدعوون إلى تطويع المقولات الفقهية التقليدية التي تنظر بالأبيض والأسود إلى العالم، وتقسمه إلى دارين لا ثالث لهما: دار الحرب ودار السلم. وهم بذلك يقدمون أكثر من 50 مليون مسلم يقيمون بالغرب كبش فداء للحيرة والتناقض والانفصام.
ويدعو الكاتب كذلك إلى تأكيد نقاط التماس والالتقاء الكائنة بين ثقافة المسلمين الأصلية وثقافة الغرب، وهي نقاط لا تحصى، مع تأجيل أو تجاوز نقاط الخلاف والتوتر. ويبدأ ذلك من الأخذ بالمشترك الإنساني الذي يوفق بين سائر البشر. ولا جدال في أن كل مجموعة بشرية تنفرد بخصوصيات تميزها عن الأخرى، لكن مع ذلك الاختلاف الملموس يمكن التسليم بأن ثمة قواسم مشتركة من شأنها أن توحد بين البشر وإن تباعدت الملل والألسنة والثقافات. وهذه القواسم نابعة من طبيعة الإنسان البيولوجية وهيئته النفسية وتركيبته العقلية، حيث التماثل في بنية الجسم والشعور والتفكير من شأنه أن يجعل هذا الكائن الحي يحن إلى كل من تجمعه به هذه المكونات والسمات، وبذلك يقبل عفوياً أو منهجياً بناء جسر التعامل معه.
ويؤكد المؤلف أهمية غرس فكرة أن الإسلام لا يعادي أحداً، بقدر ما يواجه الذي يبدأ الاعتداء. ومثل هذا الموقف لا يضع الإسلام في موقف المعادي، وإنما في موقف المدافع عن وجوده. هذه الفكرة ينبغي أن توضع نصب أعين مسلمي الغرب، الذين ينساقون كثيراً خلف بعض التفسيرات الخاطئة التي ترى في غير المسلمين أعداء تجب محاربتهم. ويتناسى هؤلاء أن مجتمع المدينة المنورة ليس إلا صورة لمجتمع متعدد الأعراق والثقافات والمعتقدات والألسنة وغير ذلك، وهذه الصورة لا تختلف إلا شكلياً عن التعدد الذي يطبع المجتمع الغربي المعاصر. ولا ينبغي أن تظل هذه الحقيقة مرهونة بفكر النخبة وتنظيراتها، وإنما يجب أن تُعمم على سائر الصعد، وبين مُختلف الشرائح الاجتماعية.
وآخر التوصيات في أجندة المؤلف هي الاستمرار في الحملة التي بدأتها العديد من الجمعيات والمؤسسات لتحسين صورة الإسلام لدى الآخر. وإنجاحاً لهذا المشروع الهادف يعتقد المؤلف أن المسلمين في الغرب ملزمون بتحقيق عنصرين حيويين؛ أولهما البدء في تحسين هذه الصورة لدى المسلمين أنفسهم، وبالتحديد لدى أجيال الهجرة الأخيرة التي تفتقد الوعي الكافي بحقيقة عقيدتها وتاريخها وثقافتها، لأنها هي من سيتسلم في المستقبل القريب مشعل تمثيل الإسلام في الغرب. والعنصر الثاني هو تعميم هذه الحملة أفقياً، على سائر المستويات، كالبيت والمسجد والمدرسة والإدارة والحي والمدينة والدولة وغير ذلك، ورأسياً على سائر الصعد، اجتماعية كانت أو ثقافية أو سياسية أو تعليمية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق